منذ عقود، يشهد النظام التربوي في العراق تحوّلاً ممنهجاً, لا يهدف إلى بناء الوعي بقدر ما يعزز الولاء السياسي والطاعة المطلقة. المؤسسات التعليمية، من المدرسة إلى الجامعة، تحوّلت إلى أدوات ضبط اجتماعي، تُكرَّس فيها ثقافة الخضوع وقمع التفكير النقدي.
في المراحل الأولى من التعليم، يُزرع في الطالب الخوف من المعلم بوصفه سلطة مطلقة. لاحقاً، يتحوّل هذا الخوف إلى تمثّل للسلطة السياسية. وفي الجامعات، تترسخ هذه العلاقة من خلال أنظمة تأديبية صارمة وعقوبات إدارية، تصنع بيئة تقتل المبادرة وتمنع التفكير المستقل.
الجامعات العراقية لم تعد مؤسسات تعليم حر، بل فضاءات مغلقة تُدار بمنطق الانتماء الحزبي والولاء العقائدي. في الوقت الذي تتوسع فيه الحركة الطلابية عالمياً في الدفاع عن الحريات، تُجرد الجامعات العراقية من دورها الحقيقي، وتُحاصر أي مبادرة تستهدف استعادة استقلالها الأكاديمي.
في أيار/مايو 2023، أصدرت وزارة التعليم العالي قراراً بحظر نشاط "اتحاد الطلبة العام"، أحد أقدم الكيانات الطلابية في العراق والعالم العربي، والذي تأسس في 1948. قرار الحظر لم يكن معزولاً، بل امتداداً لسلسلة من الإجراءات الرامية إلى قمع الحراك الطلابي وتجفيف مصادره...
لعب الاتحاد دوراً محورياً في احتجاجات تشرين 2019، حيث شكّل حاضنة للتنظيم الطلابي، ومثّل صوتا فاعلاً في الدفاع عن الحقوق والحريات. حظره يُمثّل رسالة واضحة: أي كيان طلابي مستقل هو تهديد يجب إنهاؤه..
تواصلت سياسة الحظر والتضييق، حيث أصدرت الوزارة في تشرين الأول/أكتوبر 2023 تعميماً يمنع التعامل مع عدد من المنظمات الحقوقية داخل الحرم الجامعي. وتم فرض شروط بيروقراطية على عمل أي منظمة، خصوصاً تلك التي تتلقى تمويلاً من وزارة الخارجية الأمريكية، في خطوة تُكرّس رقابة سياسية على النشاط المدني..
الازدواجية في التعامل تظهر جلية عندما تُمنح الأحزاب السياسية حق إقامة أنشطة علنية داخل الجامعات، بينما يُحظر على الطلبة وأساتذتهم التعبير الحر أو التفاعل مع المجتمع المدني. هذه الانتقائية ليست مجرد خلل إداري، بل سياسة ممنهجة لإعادة تشكيل الجامعة بوصفها مؤسسة تابعة للسلطة، لا فضاءً للمعرفة والاختلاف.
وفي آب/أغسطس 2024، أصدرت الوزارة تعميماً جديداً يمنع ظهور أساتذة القانون في الإعلام دون إذن مسبق من كلياتهم، واشترطت أن يكون للظهور "فائدة عامة"، وهدّدت بإحالة المخالفين للتحقيق الإداري. هذا الإجراء يكشف بوضوح حدود السيطرة المفروضة على حرية التعبير الأكاديمي، ويُضعف من شياع الثقافة القانونية في المجتمع..
وفي أيار/مايو 2025، فصلت جامعة البصرة ثلاثة طلاب قبيل الامتحانات النهائية بسبب تعليق نقدي على وسائل التواصل الاجتماعي تناول أداء قسم الهندسة الكهربائية. لا يمكن فصل هذا القرار عن غياب الكيانات الطلابية المستقلة، التي كان من شأنها الدفاع عن الطلبة وحمايتهم من هذا النوع من الانتهاكات.
ما يجري ليس مجرد خلل عابر، بل سياسة مدروسة لإفراغ التعليم من محتواه التنويري. الحرم الجامعي يُعاد تشكيله وفق أطر أيديولوجية مغلقة، تمنع التفكير الحر، وتقمع الأصوات المستقلة، وتُضيّق مساحة البحث العلمي الجاد.
هذه السياسات تتقاطع مع قضايا خطيرة متراكمة، مثل التحرش الجنسي، الابتزاز الإداري، والمحاصصة الطائفية في توزيع المناصب الأكاديمية، مما ساهم في تعطيل العملية التعليمية وتحويلها إلى بيئة طاردة للكفاءة والإبداع.
تحت إدارة الوزير نعيم العبودي، اتسعت رقعة القمع داخل وزارة التعليم العالي، وتراجعت مؤشرات الحرية بشكل حاد. الحملة المستمرة ضد الأصوات الطلابية والمستقلة لم تعد مجرد ممارسات فردية، بل سياسة مؤسساتية تهدف إلى إعادة هندسة العقل الجامعي ليكون تابعًا لا ناقدًا.
في هذا السياق، تطرح أسئلة مصيرية نفسها: ما مستقبل التعليم في العراق؟ وما مآلات جيل ينشأ في ظل مؤسسات تُكرّس الخوف وتحارب الوعي؟ وهل يمكن الحديث عن نهضة تعليمية في ظل منظومة تربوية قائمة على الإقصاء لا الانفتاح؟