شارك العراقيون في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2025 في الانتخابات التشريعية وسط زخم كبير من التحالفات والمرشحين الذين بلغ عددهم نحو 7,700 مرشح توزّعوا بين أحزاب وتيارات وتحالفات ومستقلين. أُجريت الانتخابات وفق قانون الانتخابات المعدل لعام 2023 (رقم 4) باعتماد صيغة سانت ليغو 1.7. وقد أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أن نسبة المشاركة بلغت 55% من أصل 21 مليون ناخب مسجّل، إلّا أنّ تقارير مراقبة الانتخابات، ومنها تحالف الشبكات المراقبة، أكدت أن المشاركة الحقيقية لم تتجاوز 41%% حسب عدد الناخبين الكلي و56% حسب عدد الناخبين الحاملين للبطاقة البايومترية.

 ورغم تنوّع التحالفات وتعدد الخيارات، أسفرت النتائج عن فوز الأحزاب التقليدية والقوى المهيمنة –بما فيها تلك التي تمتلك أجنحة مسلّحة– مقابل خسارة غير مسبوقة للقوى المدنية التي فقدت أكثر من 40 مقعداً كانت قد حصلت عليها عقب احتجاجات تشرين. يُضاف إلى ذلك انتقال بعض ممثلي "تشرين" إلى الاصطفافات التقليدية، وفشل التيارات المدنية في بناء كتلة نيابية معارضة قادرة على تغيير بنية البرلمان أو صياغة سردية سياسية جديدة تُنهي أحادية القرار التشريعي.

 

مال سياسي، محاصصة، وغياب العدالة الانتخابية

ترافقت العملية الانتخابية مع فوضى في استخدام المال السياسي الذي تجاوزت حملاته المعلنة على منصات "ميتا" وحدها خمسة مليارات دينار عراقي، فضلًا عن استغلال غير معلن لموارد الدولة كمنفذ تمويلي للقوى الحاكمة ومؤسساتها الرديفة. هذه الممارسات –التي حذرت منها منظمات المراقبة– أفضت إلى اختلال العدالة الانتخابية وترسيخ نفوذ القوى المهيمنة، الأمر الذي مهّد لأربع سنوات إضافية من هيمنة قوى لا تؤمن بالتغيير ولا تعطي وزناً لقضايا حقوق الإنسان.

 وقد أدى غياب المعارضة المدنية عن البرلمان إلى إعادة إنتاج نموذج التوافقية والمحاصصة الذي يحدد المشهد السياسي والاقتصادي وحتى المجتمعي، فيما استخدم المال السياسي لتقويض دور المواطن وتحويله من فاعل في التغيير إلى مجرد "متلقٍّ للخدمات" أو "مساوِم على صوته".

 أما شراء الأصوات –مباشرةً أو عبر "مراقبين" تابعين للكيانات السياسية– فقد أضعف أكثر قيمة العملية الديمقراطية وأفرغها من مضمونها التمثيلي.

 

تراجع القوى المدنية: حصيلة سنوات من القمع والاستهداف

لم يكن فشل القوى المدنية نتيجة الانتخابات وحدها، بل هو انعكاس لمسار طويل من الإقصاء بدأ منذ ما بعد احتجاجات تشرين عبر:  

  • تقليص مساحات العمل المدني.
  • التضييق الأمني والقانوني والملاحقات القضائية.
  • حملات التشويه والتهديد.
  • الاغتيالات واستهداف النشطاء.
  • الاغتيال المعنوي للنشطاء وحرب الاستبعادات التي مورست ضد الأصوات الناقدة.

 كما ساهم ضعف بعض ممثلي التيارات المدنية في البرلمان السابق في غياب سردية حقوقية وتشريعية واضحة وعدم القدرة على كشف الحقائق أو متابعة ملفات الضحايا، مما خلق فجوة بين تلك القوى وجمهورها، وأسهم في تنامي ظاهرة المقاطعة والعزوف الشعبي.

 

صعود القوى المسلحة والطائفية: تهديد مضاعف لحقوق الإنسان

أفرزت الانتخابات وصول قوى سياسية تمتلك أجنحة مسلّحة –مثل كتائب حزب الله، حركة عصائب أهل الحق، وأنصار الله الأوفياء– إلى تمثيل شرعي داخل البرلمان، إضافة إلى صعود قوى اعتمدت خطاباً طائفياً وتحريضياً استند إلى السلاح و"الهويات المناطقية" لكسب الأصوات. هذا المشهد خلق بيئة انتخابية قائمة على الخوف والتحشيد لا على البرامج، وعمّق الانقسام الاجتماعي، ورسّخ فكرة أن بقاء الحصص الطائفية أهم من حماية الحقوق. 

 

تهديدات مباشرة للمساحات المدنية والقوانين الضامنة للحريات

يأتي البرلمان الجديد بصبغته الأحادية ليزيد المخاوف بشأن مستقبل:  

  • قوانين الحريات العامة والمعلوماتية.
  • قانون الحق في الوصول إلى المعلومات المعطّل منذ أكثر من عشر سنوات.
  • قانون الأحوال الشخصية وما قد يتعرض له من محاولات لتسييسه أو تكريسه طائفياً.
  • وجود منظمات المجتمع المدني ومساحات عملها التي باتت تحت تهديد وجودي.

 هذه المخاوف لا تأتي من فراغ، بل من طبيعة المرشحين وخطاباتهم الانتخابية القائمة على السلاح والعشائرية والطائفية،ما يجعل مستقبل الدولة مرهوناً بإرادة "مثلث السلاح والتوافق والطائفة" الذي يضعف أسس دولة المواطنة ويقوّض الضمانات الدستورية لحقوق الإنسان.

وإن غياب المعارضة المدنية، وصعود القوى المسلحة والطائفية، واستمرار هيمنة المال السياسي والمحاصصة، جميعها مؤشرات خطيرة على تراجع البيئة الديمقراطية في العراق، وتكريس برلمان غير قادر على حماية الحقوق أو مساءلة السلطة التنفيذية أو ضمان استقلال المؤسسات. إن المساحات المدنية والحريات الأساسية أصبحت في دائرة الخطر، والسنوات المقبلة مرشّحة لمزيد من التضييق ما لم تُبنَ جبهة حقوقية ومجتمعية قادرة على مقاومة هذا الانحدار وإعادة الاعتبار لمبدأ المواطنة وسيادة القانون.

 

احموا المدافعين عن حقوق الإنسان في العراق الان!