
يُصادف اليوم “الذكرى السادسة" لانتفاضة تشرين المجيدة، الحدث الجماهيري الأكبر في تاريخ العراق الحديث. فبعد انطلاقة الاحتجاجات الأولى في مطلع تشرين الأول 2019، كانت 25 تشرين الأول هي نقطة التحول الكبرى التي أعادت إحياء الحراك، حين تداعى شابات وشبان الوطن، إلى ساحة التحرير وساحات الاعتصام في مختلف محافظات الوسط والجنوب، رافعين رايات العراق وشعارات التغيير، ومختزلين مطالبهم في شعار "نريد وطناً"؛ وطن مستقر ومستقل ومقتدر، ينعم فيه العراقيون بالرفاه والرخاء، ويكون غير مرتهن لقوى الفساد والسلاح وأجندات خارجية.
لقد مثلت الانتفاضة، حالة متقدمة في الوعي الوطني العراقي، وطرحت قواها شعارات تعبر عن وعي عميق بالأزمات والتحديات التي تواجه البلد، وفي مقدمتها إنهاء منظومة الحكم القائمة على المحاصصة الطائفية والفساد المستشري، وتوفير فرص العمل والخدمات الأساسية.
ست سنوات من الإفلات من العقاب والقمع المستمر
على مدار السنوات الست التي تلت الانتفاضة، سعت قوى السلطة مسنودة بأجندة خارجية إلى تشتيت فضاء الانتفاضة وإضعاف قواها، وتبديد إمكانيات إعادة تشكلها، تارة عبر بث الخطاب الطائفي وتكريسه اجتماعياً، وفي تارة أخرى عبر مساعي القضاء على كل ما هو وطني أصيل وتقدمي.
كان الثمن باهظاً، فجّراء القمع الدموي الذي بادرت إليه السلطات الأمنية وجماعات مسلحة عُرفت بـ"الطرف الثالث"، سقط ما لا يقل عن 541 شهيداً وأكثر من 20,597 جريحاً، وفقاً لإحصائيات المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق. كما شمل القمع حملة ممنهجة ضد النشطاء، تضمنت القتل والاغتيال والاختفاء القسري، حيث سجلت المفوضية 27 حالة قتل و75 حالة اختطاف استهدفت الناشطين.
العدالة الغائبة وتعميق ثقافة الإفلات من العقاب
على الرغم من الوعود الحكومية المتكررة بتحقيق المساءلة وتشكيل لجان التحقيق، فإن الذكرى السادسة تأتي لتؤكد فشلاً شبه كامل في تحقيق العدالة. ووفقاً لتقارير حقوقية حديثة صدرت بمناسبات مختلفة اثبتت:
فشل المساءلة: من بين ما لا يقل عن 2,700 شكوى جنائية فُتحت، لم تصدر سوى سبع إدانات فقط، مما يعكس بطئاً وغياباً للشفافية في الإجراءات القضائية، ويؤكد استمرار ثقافة الإفلات من العقاب.
قضايا رمزية: تظل قضايا اغتيال شخصيات بارزة مثل الدكتور هشام الهاشمي ورهام يعقوب، واختطاف نشطاء مثل سجاد العراقي، أمثلة صارخة على غياب الإرادة السياسية لمساءلة الأفراد ذوي النفوذ في قوات الأمن والميليشيات.
اضطهاد النشطاء: تستمر حملة الانتقام ضد النشطاء وعائلاتهم، خاصة في محافظات مثل ذي قار، عبر مداهمات المنازل ومذكرات الاعتقال الكيدية التي تحمل تهماً تصل عقوبتها إلى الإعدام، مما يجبر العشرات منهم على الاختباء أو الهروب للمنفى.
تضييق الحيز المدني وتهديد الحريات
لم يقتصر الأمر على الإفلات من العقاب، بل شهدت السنوات الأخيرة تضييقاً متزايداً على الحيز المدني وحريتي التعبير والتجمع السلمي. ويتمثل ذلك في حملات الاعتقال ضد صانعي المحتوى بذريعة "المحتوى الهابط"، واستمرار السعي لتمرير تشريعات مقيدة للحريات، مثل مشروع قانون التجمعات، الذي يهدد بتقييد حق المواطنين في الاحتجاج السلمي. هذه التدابير تُعد استمراراً للقمع وتهدف إلى الحيلولة دون اندلاع انتفاضة شعبية أخرى تتحدى النظام السياسي.
مبادئ العمل نحو التغيير والعدالة
انطلاقاً من مسؤوليتنا الوطنية، نؤكد على المبادئ الأساسية التالية التي يجب أن تحكم العمل المستقبلي:
- العدالة أولاً: لا يمكن بناء استقرار مستدام أو تحقيق مصالحة حقيقية دون مساءلة شاملة وشفافة لجميع المتورطين في قمع احتجاجات تشرين، من القيادات العليا إلى المنفذين المباشرين.
- الذاكرة حية: إن جرائم القتل والانتهاكات المرتكبة ضد المتظاهرين لا تسقط بالتقادم، ويجب أن تبقى حاضرة في الوعي العام كدافع مستمر للمطالبة بالعدالة.
- حماية المدافعين: إن توفير بيئة آمنة للمدافعين عن حقوق الإنسان ليس مجرد التزام قانوني، بل هو شرط أساسي لوجود مجتمع صحي قادر على مساءلة السلطة وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
- مسؤولية الدولة: تقع على عاتق الدولة مسؤولية مباشرة في حماية الحق في الحياة والتعبير السلمي، وتقديم الجناة إلى العدالة، وتعويض الضحايا وعائلاتهم بشكل عادل.
جذوة التغيير لا تنطفئ
خلافاً لرهان البعض، فإن جذوة الانتفاضة أبت أن تنطفئ، فالأسباب التي فجرت الغضب الجماهيري ما زالت قائمة إلى الآن، بل وتعمقت الأزمات جراء استمرار منهج الحكم المحاصصاتي الطائفي المقيت.
إن ذكرى تشرين ليست مناسبة للاستذكار فقط، بل هي دعوة متجددة للعمل. ندعو السلطات العراقية إلى اتخاذ خطوات جادة وملموسة لفتح ملفات التحقيق، وضمان نزاهة القضاء، ووضع حد فوري لاستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان. فلا مستقبل للعراق دون عدالة لضحاياه.
إن انتفاضة تشرين، برسالتها الوطنية الواضحة ودعوتها إلى المواطنة الجامعة العابرة للطوائف والتخندقات الفرعية والمناطقية، تستحق أن تُحيا ذكراها، ويُمجد شهداؤها، ويُطالب بإنصاف عوائلهم، وبتقديم قتلتهم إلى القضاء العادل.
إن آمال شعبنا وتطلعاته، تحتم على القوى الوطنية المضي في مشروع التغيير، وتحقيق أهداف انتفاضة تشرين، وهو ما يشترط تحقيق وحدة عمل قوى التغيير وبناء البديل السياسي لمنظومة المحاصصة والفساد، وكسر مساعي الهيمنة من قبل الأقلية الحاكمة.
حملة احموا المدافعين عن حقوق الانسان في العراق الان!
