تعد منظمات المجتمع المدني أحد الركائز في بناء أي مجتمع ديمقراطي مزدهر، فهي تمثل صوت المواطنين، وتعمل على تعزيز حقوق الإنسان، وتقديم الخدمات الأساسية، والمساهمة في التنمية الشاملة. في العراق، وبعد عقود من القمع والاضطرابات، يجد هذا المجتمع نفسه في مواجهة تحديات لا تقتصر على الفساد أو ضعف التماسك الاجتماعي، بل تمتد لتشمل أشكالاً متعددة من الرقابة والتدخلات التي تهدد جوهر استقلاليته وفعاليته. حيث تمارس أشكالاً من الرقابة تخنق العمل المدني، وتقوض الديمقراطية، وتضعف الحريات الأساسية في البلاد.
تُفترض دائرة تسجيل المنظمات غير الحكومية، بموجب قانون المنظمات غير الحكومية رقم 12 لسنة 2010، أن تكون الجهة الوحيدة المسؤولة عن تنظيم وتسجيل ومتابعة عمل المنظمات. لكن الواقع على الأرض يكشف عن مشهد أكثر تعقيداً وخطورة، حيث تتعدد الجهات الرقابية والإشرافية التي تتدخل في عمل المنظمات، مما يخلق بيئة من الارتباك والضغط المستمر. هذه الجهات لا تقتصر على دائرة المنظمات نفسها، بل تمتد لتشمل:
- الأمن الوطني والأجهزة الأمنية الأخرى: تمارس الأجهزة الأمنية، بما في ذلك جهاز الأمن الوطني، رقابة غير رسمية ومباشرة على أنشطة المنظمات المدنية ونشطائها. تتجلى هذه الرقابة في استدعاء النشطاء، والتحقيق معهم، ومراقبة فعاليات المنظمات، وفي بعض الأحيان، التدخل المباشر لإيقاف أنشطة معينة أو منعها. هذا التدخل الأمني يخلق مناخاً من الخوف والترهيب، ويدفع المنظمات إلى ممارسة الرقابة الذاتية لتجنب المواجهة.
- الجهات الحكومية المحلية: على المستوى المحلي، تمارس دوائر المحافظات والسلطات المحلية أشكالاً من الرقابة والتدخل، خاصة فيما يتعلق بتراخيص الفعاليات والأنشطة. قد تفرض هذه الجهات شروطاً تعسفية أو تماطل في إصدار الموافقات، مما يعيق عمل المنظمات على الأرض ويحد من وصولها إلى المجتمعات المستهدفة.
- تدخلات الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة: تُعد تدخلات الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة، التي تتمتع بنفوذ واسع في المشهد العراقي، من أخطر أشكال الرقابة التي تواجهها منظمات المجتمع المدني. تسعى هذه القوى إلى تطويع المنظمات المدنية لخدمة أجنداتها الخاصة، سواء من خلال الضغط المباشر، أو محاولة اختراق مجالس إدارات المنظمات، أو حتى استخدام التهديد والعصا ضد النشطاء الذين يرفضون الانصياع. هذا التدخل يحول دون استقلالية المنظمات ويجعلها عرضة للاستقطاب السياسي، مما يفقدها مصداقيتها ودورها الحيادي.
هذا التعدد في الجهات الرقابية، وتداخل الصلاحيات، وغياب الشفافية، يخلق بيئة معقدة وغير آمنة للمجتمع المدني. فبدلاً من أن تكون دائرة المنظمات شريكاً داعماً، تتحول إلى بوابة للرقابة المتعددة، مما يرهق المنظمات إدارياً ومالياً، ويشتت جهودها، ويجعلها تركز على تلبية متطلبات جهات متعددة بدلاً من التركيز على أهدافها التنموية والإنسانية. هذا المشهد يعكس غياب إرادة حقيقية لتمكين المجتمع المداني، ويدعو إلى التساؤل حول الدوافع الحقيقية وراء هذه الممارسات.
لا تقتصر التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني في العراق على تعدد الجهات الرقابية وتدخلات الأحزاب، بل تتفاقم بسبب البيروقراطية المتجذرة داخل دائرة تسجيل المنظمات غير الحكومية نفسها. هذه البيروقراطية تتجلى في عدة مظاهر، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت مجرد سوء إدارة أو جزءاً من استراتيجية أوسع لعرقلة العمل المدني.
من أبرز مظاهر هذه البيروقراطية ما يلي:
- تعمد إخفاء الوثائق أو تعطيل الالتزامات: تواجه المنظمات صعوبات جمة في الحصول على الموافقات والتراخيص اللازمة، حيث تتعمد الدائرة في بعض الأحيان إخفاء الوثائق المطلوبة أو تعطيل إنجاز المعاملات. هذا التأخير المتعمد يؤثر بشكل مباشر على سير عمل المنظمات، ويعرقل تنفيذ مشاريعها، ويهدر الموارد والوقت. قد تكون هذه الممارسات ناتجة عن نقص الكفاءة الإدارية، ولكن في كثير من الحالات، تبدو وكأنها تكتيك متعمد لفرض السيطرة أو تقييد حرية العمل المدني.
- التعقيدات الإجرائية: غالباً ما تكون الإجراءات المطلوبة للتسجيل أو تجديد التراخيص أو الحصول على الموافقات معقدة وغير واضحة، مما يفتح الباب أمام التفسيرات المتعددة والتأخير غير المبرر. هذا يؤدي إلى إرهاق المنظمات وإضاعة وقتها الثمين في إجراءات لا طائل منها.
- نقص الشفافية: تعاني دائرة المنظمات من نقص في الشفافية فيما يتعلق بآليات اتخاذ القرار، ومعايير التقييم، وأسباب الرفض أو التأخير. هذا الغموض يثير الشكوك حول نزاهة العملية ويجعل من الصعب على المنظمات فهم الأسباب الحقيقية وراء العراقيل التي تواجهها، مما يعيق قدرتها على التخطيط والتنفيذ بفعالية.
إن هذه الممارسات البيروقراطية، سواء كانت متعمدة أم لا، تؤدي إلى نتائج سلبية خطيرة على العمل المدني في العراق. فهي لا تضعف قدرة المنظمات على العمل فحسب، بل تساهم أيضاً في إحباط العاملين في هذا المجال، وتدفع بعض المنظمات إلى التوقف عن العمل أو البحث عن بيئات عمل أقل تعقيداً. في نهاية المطاف، فإن هذه البيروقراطية المفرطة تعيق تطور المجتمع المدني وتحد من قدرته على المساهمة بفعالية في بناء الديمقراطية والتنمية في العراق.
تتجاوز التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني في العراق مجرد العقبات الإدارية والتدخلات السياسية لتصل إلى مواقف سلبية متكررة من قبل الجهات الرسمية وغير الرسمية في التعاطي مع الأزمات والتحديات التي يواجهها المجتمع. هذه المواقف، التي تتسم أحياناً باللامبالاة وأحياناً أخرى بالعدائية، تؤثر بشكل مباشر على قدرة المنظمات على أداء دورها. وتساهم في تقويض كل ما هو ديمقراطي وداعم للحريات في العراق. من أبرز هذه المواقف:
- قضايا الجندر وحقوق المرأة: على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها منظمات المجتمع المدني في مجال الدفاع عن حقوق المرأة وقضايا الجندر، إلا أنها تواجه مقاومة شديدة ومواقف سلبية من قبل بعض الجهات الرسمية وشرائح مجتمعية. هذا التجاهل أو العداء للحقوق المتساوية للمرأة يعيق تقدم هذه القضايا ويحد من قدرة المنظمات على إحداث تغيير حقيقي في وضع المرأة في العراق.
- حماية النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان: يتعرض النشطاء والمدافعون عن حقوق الإنسان في العراق لمخاطر جمة، بما في ذلك التهديد، والاعتقال التعسفي، وحتى الاغتيال. المواقف الرسمية في التعامل مع هذه الانتهاكات غالباً ما تكون ضعيفة أو غير فعالة، مما يشجع على الإفلات من العقاب ويخلق بيئة غير آمنة للعمل المدني. هذا الفشل في حماية النشطاء يؤدي إلى تراجع في عدد المنظمات التي تعمل في مجال حقوق الإنسان، حيث إن القائمين على هذه المنظمات يخشون على سلامتهم.
- حملات الاستهداف الأخيرة: شهدت الفترة الأخيرة حملات استهداف ممنهجة ضد منظمات مدنية معينة، مما أدى إلى إيقاف عمل بعضها وتغيير استراتيجيات البعض الآخر. هذه الحملات، التي غالباً ما تكون مدفوعة بدوافع سياسية أو أيديولوجية، تهدف إلى إسكات الأصوات المعارضة أو المستقلة. هذا يؤدي إلى تضييق الخناق على الفضاء المدني. إن غياب رد فعل حكومي قوي لحماية هذه المنظمات يعكس أن الحكومة لا تدعم بشكل كامل حرية التعبير عن الرأي. بل بالعكس، فإن الحكومة تشجع على قمع الحريات.
إن هذه البيئة المعقدة، التي تتكون من الجهات الرقابية المتعددة، التدخلات السياسية، البيروقراطية الحكومية وتهديدات أمنية، تؤدي إلى عواقب وخيمة على العراق:
- تقويض الديمقراطية الهشة في العراق: إن تضييق الخناق على منظمات المجتمع المدني، التي تُعد صمام أمان للديمقراطية، يساهم بشكل مباشر في تقويض العملية الديمقراطية الهشة في العراق. فبدون مجتمع مدني قوي ومستقل، يغيب صوت المواطن، وتضعف آليات المساءلة، وتصبح السلطة أكثر عرضاً للاستبداد.
- تراجع الحريات الفردية في الانتماء والممارسة المدنية: عندما يخشى الأفراد الانتماء إلى منظمات مدنية أو ممارسة حقوقهم في التعبير والتجمع، فإن ذلك يؤثر على حرياتهم الفردية. هذا يؤدي إلى عدم وجود أفكار جديدة في المجتمع، مما يضر بالبلد ككل.
- إضعاف التعددية الفكرية والمجتمعية: يساهم تضييق الخناق على منظمات المجتمع المدني في إضعاف التعددية الفكرية والاجتماعية، حيث يتم إسكات الأصوات المختلفة وتهميش وجهات النظر المتنوعة. هذا يؤدي إلى مجتمع أحادي التفكير، يفتقر إلى الحيوية والابتكار.
- ترك الساحة بيد القوى الأحادية والمتطرفة: عندما يتم إضعاف منظمات المجتمع المدني، فإن الساحة تُترك فارغة أمام القوى الأحادية والمتطرفة لملء الفراغ. هذه القوى، التي غالباً ما تكون متطرفة، تستغل ضعف المجتمع المدني لتفرض أجنداتها، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار والتطرف في البلاد.
إن مستقبل العراق يعتمد بشكل كبير على قدرة مجتمعه المدني على الصمود والازدهار. إن حماية وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني ليس مجرد شعار، بل هو ضرورة وطنية لضمان التنمية المستدامة، وتعزيز حقوق الإنسان، وبناء مجتمع أكثر عدلاً وشمولاً. يجب على الحكومة العراقية أن تتبنى رؤية تمكينية للمجتمع المدني، من خلال إصلاح الإطار القانوني ليتوافق تماماً مع المعايير الدولية، ووقف التدخلات غير المشروعة. كما يجب على المجتمع الدولي أن يواصل تقديم الدعم المالي والفني للمنظمات، مع التركيز على بناء القدرات المؤسسية. وأخيراً، يجب على منظمات المجتمع المدني نفسها أن تلتزم بأعلى معايير الشفافية والمساءلة، وأن تعمل على بناء الثقة مع الجمهور والمؤسسات الحكومية، وأن تعزز من قدراتها الداخلية لتكون أكثر فعالية وتأثيراً. فقط من خلال تضافر هذه الجهود يمكن للعراق أن يحقق تطلعاته نحو مستقبل أفضل.