في ظل التحوّلات المتسارعة في العلاقة بين تركيا وحزب العمّال الكردستاني، ومع نهاية مرحلة الكفاح المسلّح لصالح نضال سياسي تفاوضي، يطفو على السطح سؤال ثقيل:
أين العدالة لضحايا الصحافة الذين سقطوا تحت القصف التركي؟
بين تموز وكانون الأول 2024، قُتل أربعة صحفيين وصحفيات داخل الأراضي العراقية، نتيجة استهداف مباشر من الطائرات المسيّرة التركية. ضحايا لا يحملون السلاح، بل الكاميرا والحقيقة. لكن حتى اللحظة، لم يُفتح أي تحقيق دولي أو محلي، ولم تُوجّه أنقرة أي مساءلة، وسط صمت رسمي عراقي وتواطؤ ضمني من حكومة الإقليم. في تموز، استُهدفت سيارة طاقم صحفي كان يُغطّي الذكرى العاشرة لإبادة تل قصب الإيزيدية في سنجار. في آب، تعرّضت مركبة الصحفيتين هيرو بهاء الدين وكلستان تارا للقصف في السليمانية. وفي كانون الأول، سقطت الصحفية جيهان بيلكين والمصور ناظم دشتان من وكالة "هاوار" إثر ضربة تركية جديدة.
الرسالة واضحة: الكاميرا تُهدّد أكثر من البندقية.
لكن الأخطر ليس القصف ذاته، بل السياق الذي يجري فيه، حيث تُعاد هندسة العلاقات الإقليمية، وتُموضع تركيا نفسها كضامن للسلام في سوريا والعراق، فيما تُمنح رخصة غير معلنة لضرب خصومها خارج حدودها، بذريعة "محاربة الإرهاب"
نزع السلاح مقابل إسكات الأصوات؟
في الوقت الذي يُبشّر فيه عبد الله أوجلان بـ"انتصار النضال السلمي"، ويدعو إلى التخلي عن السلاح لصالح مشروع ديمقراطي لا مركزي، فإن ميدان المعركة الحقيقية ينتقل إلى الإعلام والمعرفة والرأي العام. ومَن يدفع الثمن هم الصحفيون الكرد، الذين يُوثّقون الانتهاكات من سنجار إلى قنديل، ومن مخمور إلى السليمانية.
القصف التركي لا يستهدف قواعد عسكرية، بل يضرب المجال الإعلامي الكردي في العمق. وهذا يُعيدنا إلى قلب معادلة الصراع:
هل نزع السلاح يعني أيضاً نزع الحق في السرد؟
وهل تُمثّل العدالة ضريبة زائدة في حسابات التسوية السياسية؟
المحاسبة المؤجلة... والعدالة المُفرّغة
رغم توقيع العراق على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ومشاركته في مجلس حقوق الإنسان، فإن الدولة لم تُطالب حتى اليوم بفتح تحقيق مستقل حول تلك الجرائم.
لا لجان تقصّي، ولا إحالة إلى مجلس الأمن، ولا حتى تفعيل لآليات أممية لحماية الصحفيين.
السكوت الرسمي لا يختلف كثيراً عن الخطاب الموارب لأنقرة، حيث تُعامل الصحافة الكردية باعتبارها امتداداً لحزب العمال، وتُبرَّر الهجمات ضمن استراتيجية "الأمن القومي". لكن وفق القانون الدولي الإنساني، فإن استهداف المدنيين، والصحفيين تحديداً، يُعد جريمة حرب. والمادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف تحمي الصحفيين العاملين في مناطق النزاع..
خاتمة: من الذاكرة إلى المساءلة
في لحظة مفصلية تشهدها المنطقة، مع نهاية نضال مسلح وولادة ترتيبات سياسية هشّة، يُخشى أن تُدفن ملفات الجرائم ضد الصحفيين تحت ركام الصفقات.
لكن الحقيقة لا تُقصف، والذاكرة لا تموت.
هؤلاء الذين قتلوا وهم يوثّقون الانتهاكات ليسوا "أضراراً جانبية"، بل شهود غيّبتهم الطائرات، في حرب بلا إعلان، وبلا محكمة.
حملة أحموا المدافعين عن حقوق الإنسان في العراق الان!