رغم تصاعد انتهاكات الحقوق والحريات في العراق، لا يزال تعليم حقوق الإنسان داخل الجامعات العراقية حبيس الهامش، مسجوناً داخل قاعات جامدة ومناهج مفككة، خالية من الروح والموقف.
في العديد من الكليات العراقية، بات تدريس حقوق الإنسان أقرب إلى فرض إداري منه إلى خيار تربوي يهدف إلى بناء وعي نقدي وتكوين جيل قادر على فهم، تفكيك، ومواجهة مظاهر القمع والتمييز واللامساواة. فالمادة، وإن أُدرجت شكلياً ضمن الخطط الدراسية، إلا أنها تُعامل كمادة "ثانوية" لا تمثل أولوية حقيقية في المنظومة التعليمية، ولا في عقول الأساتذة والطلبة على حد سواء.
غياب المنهجية وتشوّش الهدف
يخلو تعليم حقوق الإنسان من أي رؤية واضحة. لا أهداف تعليمية محددة، ولا مناهج مصممة بحسب التخصصات أو السياقات المحلية. في كلية القانون، على سبيل المثال، يُدرّس الطلبة مبادئ القانون الدولي الإنساني ومفاهيم الحماية، لكن بأسلوب نظري جامد لا يربط بين ما يُقال في الصف وما يُمارس خارجه. النتيجة؟
طلاب لا يدركون آليات الرصد والتوثيق أو أدوات المساءلة، ولا يعرفون كيف يميّزون بين "الحق" و"الامتياز"، أو بين "الانتهاك" و"الإخفاق الإداري". بل يخرج بعضهم من الجامعة بمفاهيم مغلوطة تُفرّغ المبادئ الحقوقية من مضامينها السياسية والاجتماعية.
شهادات طلابية: "المادة لا معنى لها"
في مقابلات أجريت مع عدد من الطلبة، خصوصاً في كليات القانون والعلوم السياسية والتربية، برز شعور واسع بالإحباط وعدم الجدوى. يقول طالب في كلية القانون:
"مادة حقوق الإنسان مزعجة، مكتوبة بأسلوب جاف، ولا أحد من الأساتذة يتعامل معها بجدية رغم أنها في صلب تخصصنا. نشعر وكأنها حشو."
بينما تقول إحدى المُدرسات:
"أتمنى إدخال منهج حقوق الإنسان إلى التعليم المدرسي، لكن لا أريده مادة جامدة ومفرغة، بل يجب أن يكون حياً، من خلال تصميم أنشطة تفاعلية وفتح حلقات نقاش تسهم في تعزيز الشغف والمعرفة الحقيقية لدى الطلبة".
في هذه الشهادات يتجلى الفشل البنيوي: لا فقط فيما يُدرَّس، بل في كيف يُدرَّس، ولماذا يُدرَّس أصلاً.
فجوة بين المعرفة والواقع
الإشكالية الأعمق تكمن في القطيعة بين التعليم الحقوقي والواقع السياسي والاجتماعي. فبينما يواجه الطلبة يوميًا انتهاكات متنوعة – من القمع داخل الحرم الجامعي، إلى التمييز، إلى تقييد النشاط الطلابي – لا توفر المادة الحقوقية أدوات لقراءة هذه التجارب أو تفسيرها أو مقاومتها.
الأدهى أن الطلبة أنفسهم لا يُمنحون مساحة للمشاركة أو النقاش أو حتى التعبير عن رأيهم في هذه المادة. فتغيب الأنشطة التطبيقية، ولا توجد ورش تحليل حالات، أو محاكاة لآليات الأمم المتحدة، أو تدريب على تقنيات الرصد والتوثيق.
المسؤولية المشتركة: مناهج راكدة وكوادر غير مهيأة
تعكس هذه الصورة خللاً مضاعفاً: من جهة، تُكتب المناهج بأسلوب قديم لا يراعي التغيرات الحقوقية والسياسية المتسارعة، ومن جهة أخرى، لا يتم تأهيل الأساتذة لتدريس هذه المادة بطريقة نقدية وتفاعلية.
في كثير من الأحيان، تُسند المادة إلى مدرسين لا يمتلكون خلفية كافية في حقوق الإنسان، ولا إلماماً بالآليات الدولية أو التجارب المحلية. فيتخذ التعليم طابعاً أقرب إلى التلقين منه إلى التمكين.
نحو إعادة الاعتبار: إصلاح جوهري لا تجميلي
لا يمكن الحديث عن أي تطوير حقيقي دون تغيير بنيوي عميق في طبيعة تدريس حقوق الإنسان في العراق. يجب أن تتحوّل هذه المادة من عبء شكلي إلى حاضنة فكرية، تفتح آفاقاً للطلبة لفهم مجتمعهم والمشاركة في تغييره. وذلك يتطلب:
- إعادة تصميم المناهج وفق المعايير الأكاديمية والحقوقية، مع ربطها بالسياق المحلي وتفصيلها بحسب التخصصات.
- إدماج منهجيات تعليم تفاعلية مثل تحليل دراسات حالة، المحاكاة، الجدالات المفتوحة، وتقنيات رواية القصص والشهادات الحيّة.
- تأهيل الكوادر التدريسية من خلال ورش عمل وشهادات تدريبية بالشراكة مع منظمات حقوقية معترف بها.
- فتح مساحة للطلبة لتنظيم جلسات حوارية، عروض وثائقية، ومشاريع بحث ميدانية مرتبطة بانتهاكات حقيقية.
- إدراج حقوق الإنسان منذ التعليم المدرسي، ولكن كمنهج حيّ، لا كصفحة محفوظة أو "معلومة للامتحان".
خاتمة: الحقوق لا تُدرّس... بل تُمارَس
لن تنجح أي مادة حقوقية إن لم تكن متجذّرة في واقع الطلبة ومتصلة بمعاركهم اليومية. حقوق الإنسان ليست درسًا جامدًا، بل ممارسة، وموقف، ورؤية للعالم. وحين يُفشل التعليم في تزويد الجيل الجديد بهذه الأدوات، فإنه لا يُقصّر فحسب، بل يشارك في إدامة القمع.