لم يكن ما جرى في البصرة في 15 تموز 2025 مجرد وقفة احتجاجية عمالية، بل كان مشهداً آخر يُضاف إلى مسلسل الصدام المتكرر بين عمّال يبحثون عن حقٍّ في العمل، وسلطة تتعامل مع المطالب بوصفها تهديداً. العمّال الذين تجمّعوا أمام بوابة شركة مصافي الجنوب، مطالبين بعقود عمل رسمية ضمن مشروع مصفى الشعبية (FCC)، لم يُواجهوا بردّ مؤسساتي أو حوار، بل جوبهوا بعنف مباشر من قبل قوات مكافحة الشغب، التي لم تجد حرجاً في ضرب مواطنين عزّل خرجوا يطالبون بتثبيتهم في وظائفهم.
المشكلة لم تكن في عنف الرد فقط، بل في المعادلة غير المتكافئة التي تحكم العلاقة بين الدولة وعمّالها. هؤلاء الذين يمثّلون الشريحة المنتجة في أحد أكثر القطاعات حيوية، يُعاملون كعبءٍ فائض، في وقت تُفضّل فيه الشركات النفطية — برعاية حكومية ضمنية — التعاقد مع عمّال أجانب على حساب اليد العاملة العراقية. هذا التمييز الممنهج لا يُعبّر فقط عن إخفاق اقتصادي، بل يكشف عن منطق استبعاد اجتماعي طويل الأمد، باتت فيه قيمة المواطن مرهونة بانتمائه السياسي، لا بإنتاجه. ما أظهرته الوقفة ليس مجرد معاناة اقتصادية، بل انكشاف سياسي فجّ. فوفق ما أدلى به بعض العمّال، تُستغل مطالبهم كورقة مساومة في كل موسم انتخابي: وعود بالتعيين مقابل بطاقات انتخابية، وتثبيت مشروط بالولاء. بهذا المعنى، لا تتحوّل حقوقهم إلى ملفات تفاوض، بل إلى أدوات ابتزاز، تُدار ضمن شبكة تبادل منافع حزبية تُكرّس التبعية وتُجهز على مبدأ المواطنة من جذوره.
في المقابل، تستمر السلطات في استخدام العنف كإجابة جاهزة على أي مطالبة جماعية. لا يبدو أنّ هناك إرادة سياسية لفهم الاحتجاجات، أو قراءتها كمؤشر على خلل هيكلي، بل يُنظر إليها كاضطراب ينبغي قمعه سريعاً. بهذا، يتحوّل المشهد من خلاف حول الحقوق إلى معركة على تعريف الدولة نفسها: هل هي كيان يحمي الحقوق؟ أم أداة للردع؟
ما حصل في البصرة ليس حادثاً منفصلاً. إنه تجلٍّ لنمط متكرّر بدأ يترسّخ في مختلف المحافظات: إهمال للمطالب، ثم عنف، ثم صمت. سلسلة من الإنكار المؤسسي لا تقود إلا إلى مزيد من الاحتقان. وما لم يُكسر هذا النمط من خلال مساءلة حقيقية وتغيير في السياسات، فإن كل صوت احتجاجي سيُدفع ثمنه، لا فقط بالعصا، بل بتهميش طويل المدى للشرائح العاملة.
إن صوت العمّال في العراق لا ينبغي أن يُواجَه بالضرب أو التجاهل، بل يجب أن يُفهَم كإنذار مبكر على فشل السياسات، وفرصة لإعادة التفكير بوظيفة الدولة تجاه مواطنيها. لأن ما يُطالب به هؤلاء لا يتعدّى أساسيات الكرامة: العمل، الأمان، والمساواة. وإن عجز النظام السياسي عن ضمان هذه البديهيات، فإن الاحتجاج لن يكون استثناءً، بل القاعدة القادمة.