في يوم الشباب العالمي، الذي يُحتفى به سنوياً لتجديد الالتزام بحقوق الشباب ودورهم في التنمية والاستقرار، يبرز في العراق تناقض صارخ: بينما تتلو الحكومة بياناتها الرسمية عن العزم على تمكين الشباب وتحقيق التنمية، الواقع يكشف فشلاً مؤثراً في التزاماتها الدولية وإخلالاً مباشراً بالوعود المُعلنة. 

خلال عام 2021، دشّنت وزارة الشباب والرياضة مع الأمم المتحدة "رؤية عراق 2030 للشباب"، بمشاركة من وزارة الثقافة والجهات الدولية مثل UNFPA وUNICEF، بدعم سويدي، بهدف وضع خارطة طريق لتمكين الشباب اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، وتعزيز مشاركتهم السياسية. لكن هذه الرؤية لم تترجم إلى أرض الواقع.i  

وعلى المنبر الدولي، ردّ العراق في نيويورك عام 2023، ممثلاً بوزارة الشباب، على تحديات التنمية المستدامة بالشعار والحضور فقط، مؤكّداً محاولات الحكومة جذب الطاقات الشبابية للعمل الميداني، وتحسين أوضاعهم عبر برامج ثقافية ورياضية. بارزٌ في الخطاب أنّ هذا الاعتراف لم ينقلب إلى مشاريع ملموسة في مواجهة البطالة وسوء الخدمات.ii  

في المقابل، الأرقام مروّعة: الشباب يمثلون نحو 19.6% من إجمالي السكان، لكن معدلات البطالة تجاوزت مليون شاب، أغلبهم خريجون بلا فرص حقيقية، بينما يعاني ملايين منهم من الفقر وسوء الصحة، دون سياسات واضحة لإنقاذهمiii  

وعندما خرج الشباب إلى الشارع مطالبين بالإصلاح، التزمت الحكومات المتعاقبة الصمت أو ردّت بالقمع. عام 2019، تحولت مطالب الشباب إلى انتفاضة حقيقية ضد فساد الدولة وسياسات المحاصصة الطائفية، لكن الرد كان حملة اعتقالات وتخويف واسعة، بالإضافة إلى تراجع العدالة والشفافية.iv  

ساهمت التشريعات المقترحة آنذاك في تضييق المساحة المدنية؛ فالقوانين تحت عنوان "مكافحة الإرهاب" أو تنظيم التجمعات وضعت الشباب تحت رقابة دائمة، والدعاوى الكيدية باتت أداة لإسكات الأصوات المختلفة. v  

الأزمة لا تقتصر على السياسة فقط، بل رغبة الدولة في التحكم في الفضاء العام وصل إلى مستوى إدانة التعبير على وسائل التواصل. حملات "المحتوى الهابط" المنظمة، التي تطلقها الداخلية، استهدفت مدوني فيديو وشباب مبدعين، والسجن لم يكن تهديداً يلوح دون تنفيذ.vi  

المشهد كله يؤكد أن يوم الشباب العالمي في العراق يظهر تناقضاً لافتاً: بينما تتلو الحكومة شعارات حقوقية والتزامات دولية، يمارس الواقع عكسه تماماً. كم من هذه التصريحات أصبحت مجرد شعارات على الورق؟ 

في رصدً قمنا به لأوضاع ناشطين شاركوا في احتجاجات سابقة، تتكرر القصص بأشكال مختلفة لكن بخط زمني واحد: مداهمة المنازل فجراً، أو مكالمة من رقم مجهول تهدد بالاختطاف أو القتل، أو استدعاء “روتيني” إلى مركز أمني يتحول إلى استجواب طويل ومضايقات شخصية. هذه الممارسات جعلت كثيراً من الشباب ينسحبون من الفضاء المدني كلياً، ويختارون الصمت، ليس عن اقتناع، بل لأنهم باتوا يرون ثمن الكلام أكبر من طاقتهم. 

أحد المدافعين عن حقوق الإنسان، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، قال: "بعد 2019، كل ما تعلمناه هو أن الدولة ليست حامية لنا، بل يرونا كخصم مباشر. حتى المنظمات الدولية التي كانت  تحاول مساعدتنا كانت تواجه صعوبة في التواصل معنا، لأن أي تعاون قد يُفسر كـ‘تخابر’ في نظر الأجهزة الأمنية." 

هذا المناخ المسموم ليس وليد لحظة، بل هو نتاج سياسة منهجية امتدت عبر حكومات مختلفة، تَوحّدت جميعها في نقطة واحدة: الرغبة في السيطرة على الشباب بدل تمكينهم. القوانين التي تُستخدم تحت شعار “حماية الأمن” أو “صون القيم المجتمعية” تحولت إلى سلاح قانوني يهدد حياة الناشطين، فيما بقيت التزامات العراق الدولية، مثل قرارات مجلس الأمن 2250 و2419 الخاصة بالشباب والسلم والأمن، مجرّد نصوص مؤطرة في ملفات وزارية. 

في عام 2020، أعلنت الحكومة برنامجاً لتمكين الشباب عبر منح صغيرة ومشاريع ريادة أعمال، لكن تقارير محلية لاحقة أظهرت أن معظم هذه المنح لم تصل إلى مستحقيها، أو ذهبت إلى فئات مرتبطة سياسياً بالسلطة. نفس النمط يتكرر في برامج التدريب الدولية، حيث يتم اختيار المشاركين عبر توصيات حزبية، بدل فتح الباب أمام تمثيل حقيقي للشباب من كل المحافظات. 

وفي الفضاء الرقمي، أغلقت الحكومة نوافذ الحرية القليلة التي بقيت، عبر ملاحقة المحتوى، وإصدار أوامر اعتقال بحق مدونين ومؤثرين شباب، ليس بسبب تحريض أو كراهية، بل لمجرد نشر مقاطع تنتقد الأداء الحكومي أو تسخر من مسؤولين. هذه السياسة دفعت الكثير من المدونين الرقميين من الابتعاد او تطبيق الرقابة الذاتية خوفاً من الانتهاء بهم في السجون. 

الشباب العراقي اليوم لا يحتاج إلى بيانات، بل إلى حرية التعبير، وحماية المدافعين عن حقوقه، وبيئة يتمكن فيها من التنظيم والتعبير والمشاركة السياسية والاجتماعية دون خوف من السجن أو التشهير أو فقدان الفرص المهنية. إننا أمام فرصة لإعادة الاعتبار للشباب وإرث الاتفاقيات الدولية، لكن ذلك يتطلب وقف سياسات التخويف وإعادة بناء الثقة وتنفيذ البرامج الحقيقية، لا فقط التحدث باسمها. 

يوم الشباب العالمي، في الخطاب الرسمي، مناسبة للاحتفاء بـ"طموحات المستقبل" و"أبطال التنمية". لكنه، بالنسبة لغالبية الشباب العراقي، تذكير سنوي بكمّ الوعود التي لم تتحقق، والالتزامات التي خذلتهم، والفرص التي أُغلقت أمامهم عمداً. في ظل هذا الواقع، يصبح الاحتفاء مجرّد صورة تذكارية تُلتقط أمام شعارات لامعة، تخفي خلفها جيلًا يشعر أنه غير ممثل، غير مسموع، وغير آمن. 

 

حملة احموا المدافعين عن حقوق الإنسان في العراق الان!