قراءة في حملة إلغاء الجندر بالعراق
في الرابع والعشرين من شباط 2024، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا في العراق قراراً يقضي بإلغاء جميع المواد التي تتضمن مصطلح "الجندر" أو "النوع الاجتماعي" في تعليمات الأمانة العامة لمجلس الوزراء وتشكيلاتها. ظاهرياً، بدا الأمر قراراً قانونياً محصوراً بمصطلح أكاديمي، لكن تتبع مسار الأحداث يكشف أن ما جرى كان تتويجاً لحملة سياسية وإعلامية منسقة، بدأت قبل أشهر وتحولت فيها قضية لغوية إلى معركة أيديولوجية تحمل أهدافاً أعمق بكثير من مجرد تعديل تعليمات إدارية.
البداية تعود إلى نيسان 2023، حين وصف أحد قياديي حركة النجباء، خلال مؤتمر "الهوية الوطنية" الذي نظمته المستشارية الثقافية لمجلس الوزراء، الجندر بأنه "مفهوم هجيني" دخيل على القيم الإسلامية. آنذاك، لم يلفت التصريح الانتباه إلا في دوائر محدودة، لكنه وضع بذرة خطاب سيعاد تكراره لاحقاً على نطاق أوسع. ومع اقتراب الصيف، بدأت الموجة الثانية من التصعيد، هذه المرة عبر منابر سياسية ودينية وإعلامية متزامنة، صورت المصطلح باعتباره خطراً أخلاقياً يهدد المجتمع، متجاهلة خلفيته العلمية ودوره في تحليل فجوات القوة وعدم المساواة.
في أواخر تموز 2023، تحولت هذه المواقف إلى إجراءات رسمية متسارعة. وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أصدرت في 27 تموز تعميماً يمنع تداول المصطلح في الجامعات، رغم أنها كانت قبل أسبوعين فقط قد دعت إلى استخدامه في سياقه العلمي. بعد ذلك بأيام، أصدرت هيئة الإعلام والاتصالات في 8 آب توجيهاً يمنع استخدام كلمة "الجندر" في الإعلام، ويستبدل مصطلح "المثلية" بـ"الشذوذ الجنسي"، في مخالفة صريحة للمعايير الدولية في الخطاب الإعلامي. في الوقت نفسه، بدأ نواب في البرلمان الترويج لمشاريع قوانين تحظر المصطلح في جميع الوزارات، مستخدمين شعار حماية "قيم المجتمع" كغطاء لتبرير المنع.
لكن الحملة لم تقتصر على القرارات الرسمية، بل رافقتها موجة تحريض منظم على وسائل التواصل الاجتماعي، تضمنت نشر معلومات مغلوطة حول معنى الجندر، واستهدافاً شخصياً لناشطين وباحثين، شمل التشهير، وانتهاك الخصوصية، وتسريب بيانات شخصية بهدف إسكات الأصوات المعارضة. إحدى الباحثات اللواتي تعرضن للاستهداف أوضحت أن المصطلح أداة لتحليل الفجوات بين الجنسين وأحياناً بين فئات مختلفة من الرجال، وأن حذفه ضعف قدرة الباحثين على رصد هذه الفجوات في التعليم والعمل والحياة العامة، ما يشكل ضربة قاسية للبحث العلمي في العراق.
المجتمع المدني حاول الرد بوسائل سلمية، فأطلق أكثر من ألف أكاديمي وباحث وناشط بياناً جماعياً يرفض إلغاء المصطلح، واعتبر الحملة ضده جزءاً من استراتيجية أوسع تتبعها قوى سياسية إسلامية لصناعة أزمات أخلاقية وهمية، وإلهاء الرأي العام عن ملفات أكثر إلحاحاً مثل الفساد وسوء الخدمات والبطالة. البيان حذر من أن هذه السياسات تمثل خرقاً لالتزامات العراق الدستورية والدولية، بما في ذلك اتفاقية سيداو ومنهاج عمل بيجين وأجندة التنمية المستدامة لعام 2030.
اليوم، وبعد مرور عامين على القرار، باتت آثاره واضحة وعميقة. مجالات الدراسات الأكاديمية المرتبطة بالجندر والسلام جُمدت تقريباً، والجامعات مُنعت من التعاون مع عشر منظمات مجتمع مدني على الأقل. الرقابة الذاتية أصبحت واقعاً ملموساً؛ منظمات عديدة عدلت محتواها أو حذفته، وتجنبت الدخول في شراكات معلنة مع جهات دولية خشية الاستهداف. الأخطر أن إلغاء المصطلح فتح الباب أمام خطوات تشريعية مشابهة، مثل تعديلات قانون الأحوال الشخصية التي استندت إلى خطاب تحريضي وأقصت الأصوات المعارضة عبر حملات تشويه منظمة.
إلغاء الجندر لم يكن، إذن، مجرد تغيير لغوي أو إجراء إداري محدود، بل جزء من مسار متكامل لإعادة تشكيل الفضاء المدني والأكاديمي وفق معايير أيديولوجية، وتحويل "القيم المجتمعية" إلى أداة قانونية لتقييد الحريات وملاحقة المختلفين. خلف هذا المسار، تتقاطع دوافع سياسية مع رغبة في السيطرة على الخطاب العام، ما يجعل إعادة الاعتبار للمفهوم في سياقه العلمي والحقوقي مسألة ملحة، ليس فقط لحماية البحث الأكاديمي، بل لضمان بقاء مساحة للحوار المدني الحر في العراق.
في تتبع مسار الحملة ضد "الجندر"، تظهر خيوط مترابطة تجمع بين دوائر سياسية ودينية وإعلامية، عملت بتناغم غير معلن. قيادات في فصائل مسلحة ذات نفوذ سياسي، مثل حركة النجباء، كانت البادئة بإطلاق خطاب التشكيك والتحريض، قبل أن تتلقف الفكرة شخصيات برلمانية من كتل إسلامية وتعمل على تحويلها إلى مقترحات قوانين. المستشارية الثقافية في مجلس الوزراء لعبت دوراً في توفير المنصات الرسمية لترويج الخطاب، بينما تولت وسائل إعلام حزبية، بعضها ممول من الخارج، مهمة تضخيم الرسائل وإعادة إنتاجها بمحتوى بصري ومصطلحات مشحونة عاطفياً.
على الجانب الرقمي، قاد عدد من المدونين المرتبطين بشبكات ضغط سياسية حملات منسقة على منصات التواصل، تضمنت وسم حسابات ناشطين وأكاديميين، ونشر محتوى موحد في توقيتات متزامنة، ما يشير إلى إدارة مركزية. بعض هذه الحسابات يرتبط بمنظمات غير مسجلة تعمل تحت غطاء "مراكز أبحاث" أو "منتديات حوار"، لكن تحركاتها وأجندتها تتقاطع مع الخطاب الرسمي للفصائل السياسية ذات التوجه الإسلامي. مصادر من داخل المجتمع المدني تحدثت عن أن هذه المراكز تلقت تمويلاً غير معلن من رجال أعمال مقربين من أحزاب نافذة، بهدف دعم "حملات القيم" التي تُستخدم أحياناً كأدوات لإسكات الأصوات الناقدة للسلطة.
هذا التشابك بين السياسة والإعلام والمنصات الرقمية خلق بيئة يصعب فيها الفصل بين العمل الدعائي والقرار السياسي، وأنتج حملة بدت شعبية في ظاهرها، لكنها في جوهرها موجهة ومخطط لها بعناية. وهكذا، لم يكن إلغاء "الجندر" في العراق نتاج ضغط اجتماعي عفوي، بل نتيجة عملية مركبة جمعت التحريض الأيديولوجي بالمصالح السياسية، واستثمرت أدوات الدولة والإعلام لفرض تغيير على المجال الأكاديمي والمدني يخدم أجندة محددة.