سياسة تسجيل الهواتف وحقوق الإنسان في العراق

في ظل فراغ تشريعي يخص حماية الفضاء الرقمي في العراق، شهدت السنوات الأخيرة محاولات حكومية متزايدة للسيطرة على هذا المجال. تجلت هذه المحاولات في عدة مبادرات، أبرزها تشكيل لجنة لمكافحة ما أُطلق عليه "المحتوى الهابط"، وإطلاق لائحة لتنظيم المحتوى الرقمي، وأخيراً، سياسة تسجيل الهواتف النقالة. تثير هذه الإجراءات تساؤلات جدية حول التوازن بين الحاجة إلى التنظيم وحماية حقوق الإنسان، لا سيما في ظل غياب أطر قانونية واضحة..

لجنة مكافحة "المحتوى الهابط" وتداعياتها

أعلنت وزارة الداخلية العراقية في منتصف يناير/كانون الثاني 2023 عن تشكيل لجنة مختصة لمحاربة "المحتوى الهابط"، بهدف الحد من انتشار المقاطع التي تُعتبر مسيئة للذوق العام وتخالف الأخلاق والتقاليد. تعمل هذه اللجنة كجهة تتلقى البلاغات عن المحتوى الرقمي، وقد أسفرت عن اعتقال أكثر من عشرة أشخاص، وصدرت أحكام بالسجن بحق ستة منهم. ووفقاً لمسؤول في وزارة الداخلية، تلقت المنصة المخصصة للشكاوى  96 ألف بلاغ.

 

وفي الأول من أكتوبر 2025، أعلنت الوزارة عن استبدال مصطلح "المحتوى الهابط" بـ"المحتوى المخل بالحياء والآداب العامة". ورغم الأهداف المعلنة، فقد واجهت اللجنة انتقادات حقوقية واسعة. يرى مدير المرصد العراقي لحقوق الإنسان، مصطفى سعدون، أن غياب قانون واضح للمحتوى الهابط يجعل الدولة تعتمد على قانون العقوبات الذي يحتوي على مصطلحات فضفاضة مثل "الآداب العامة وخدش الحياء". هذه المصطلحات قابلة للتأويل والتفسير، مما قد يؤدي إلى اعتقالات غير مبررة أو إفلات من خالف القانون فعلياً.

لائحة تنظيم المحتوى الرقمي: جدل معلق

أطلقت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية لائحة لتنظيم عمل المشاهير وصناع المحتوى الرقمي، بهدف تنظيم المحتوى الإعلامي وحماية المجتمع من الإعلانات المضللة والممارسات غير الأخلاقية. ومع ذلك، واجهت هذه اللائحة موجة واسعة من الاعتراضات الحقوقية، حيث اعتبرت منظمات حقوقية أن موادها فضفاضة ويمكن استغلالها في تكميم الأفواه وتقييد حرية التعبير، وأنها تتعارض مع الدستور العراقي والالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان. وقد أوقف التصويت على اللائحة تحت وعود بمراجعتها وتعديلها. ومع ذلك، تشير تقارير حديثة من مؤسسة أنسم للحقوق الرقمية إلى تصاعد ملحوظ في حجم الطلبات الحكومية لتقييد المحتوى الرقمي في العراق منذ عام 2024.

 

سياسة تسجيل الهواتف النقالة: مخاطر خفية على الخصوصية

تضمنت الموازنة العامة الاتحادية بنوداً تلزم هيئة الإعلام والاتصالات بالتعاقد مع شركة مختصة لإنشاء منصة لتسجيل الأجهزة المحمولة. تهدف هذه المنصة رسمياً إلى مكافحة التهرب من الرسوم الجمركية، ومنع دخول الأجهزة المقلّدة أو المسروقة، وضمان حماية المستهلك. وفي 22 يوليو 2025، وجّه رئيس مجلس الوزراء الهيئة للإسراع بتنفيذ هذه السياسة.

 

أُحيل المشروع، بحسب صحيفة العالم الجديد، إلى شركة بريطانية تعمل من الأردن. وقد أثار هذا التطور قلقاً برلمانياً وحقوقياً واسعاً. حذر النائب كاريوان علي ياريوس من "مخالفات قانونية في المشروع إلى جانب مخاوف فنية تتعلق بأمن البيانات والمعلومات الخاصة بالمواطنين العراقيين، فضلاً عن أبعاد أمنية واستخبارية أخرى". كما كشف النائب عقيل الفتلاوي عن أن العقد تم توقيعه مع شركة بريطانية غير معروفة، مما يثير مخاوف قانونية وفنية وأمنية.

يشير الخبراء إلى أن البنية التقنية المصاحبة لسياسة تسجيل الهواتف، والتي تربط رقم الهوية الدولية للأجهزة المتنقّلة (IMEI) بالمعلومات الشخصية لمالك الجهاز، قد تتحول إلى أداة رقابية فعالة وخفية. يمكن استغلال هذه التقنية لتعقّب موقع الجهاز والمستخدم، والتجسس، واستغلال أرقام IMEI في عمليات المراقبة الدقيقة أو استهداف الأجهزة، مما يقلص قدرة الصحفيين والناشطين على حماية خصوصيتهم. بالإضافة إلى ذلك، يحتوي الموقع المخصص للتحقق من أرقام IMEI على ثغرات أمنية قد تتيح لأطراف ثالثة الوصول إلى بيانات المستخدمين.

 

الفراغ التشريعي وتأثيره على الحقوق الرقمية

تتفاقم هذه المخاوف في ظل فراغ تشريعي خطير في العراق. فمجلس النواب عطّل تمرير قانون "حق الحصول على المعلومة" المدرج في جدول أعماله منذ سبتمبر 2025. يواجه هذا القانون انتقادات بأنه قد يحجب نحو 13 نوعاً من المعلومات، ويمنح الموظفين الحكوميين صلاحيات تقديرية لرفض الكشف عن المعلومات، مما يهدد حرية الصحافة.

كما بقي قانون "الجرائم المعلوماتية" حبيس الأدراج دون مراجعة حقوقية تضمن التوازن بين الحماية والمساءلة. وقد أثار هذا القانون جدلاً واسعاً ومخاوف من تحويله إلى أداة للقمع والتضييق على الآراء والحريات. والأخطر من ذلك هو غياب تشريع خاص بـ"حماية البيانات الشخصية"، مما يمثل فراغاً تشريعياً يفتح الباب أمام انتهاكات منظمة للخصوصية ومخاطر خارجية تمس سيادة البلاد الرقمية.

يؤكد الخبراء أن إدماج مبادئ حقوق الإنسان في العقود والاستثمارات الحكومية ليس ترفاً، بل هو التزام قانوني وفقًا للمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان. لذا، فإن أي تعاقد حكومي يمس بيانات المواطنين يجب أن يخضع لمعايير صارمة لحماية الخصوصية، مع ضمان آليات فعالة للمساءلة والإنذار المبكر عند حدوث أي خرق أو تسريب.

 

دعوة إلى الحوار والمشاركة

تؤكد حملة #احموا_المدافعين على ضرورة فتح حوار وطني حر وشفاف حول سياسة تسجيل الهواتف وتداعياتها على الأمن الشخصي للمواطنين ومستقبل الأجيال الرقمية. إن الرهان على مشروع مجهول المعايير في بيئة تفتقر إلى الضمانات القانونية يشكل مخاطرة غير محسوبة بالأمن الوطني والحقوق الفردية.

تطالب الحملة الحكومة والبرلمان وهيئة الإعلام والاتصالات بإشراك المجتمع المدني والخبراء والمواطنين في صياغة أي سياسة رقمية تمس بياناتهم وحقوقهم، وإرساء نهج جديد يقوم على الحماية، الاحترام، والانتصاف ، لا على الغموض والقرارات المغلقة.

احموا المدافعين عن حقوق الإنسان في العراق الان!